Site icon Together For Justice

النظام السعودي يقترب من التطبيع… بينما دماء الفلسطينيين لم تجف بعد

عند متابعة تصريحات وساطة وصيحات دبلوماسيين من خارج ولا داخل الميدان، مثل تصريح توم باراك الأخير الذي يُشير إلى مسارات جديدة للتطبيع تشمل المملكة، يجب أن تُقرأ هذه التصريحات في سياق أوسع لا يسمح بتغافل أو تبرير. الكلام عن «انفتاح مسار للتطبيع» ليس مجرد خبر دبلوماسي محايد؛ إنه مؤشر على توجه سياسي لم يَخض بعد نقاشًا وطنياً ومسؤولاً داخل السعودية أو بين الأشقاء في العالم العربي، ويتجاهل تمامًا حقيقة إن القضية الفلسطينية لم تُحترم بعد: الأرض مُحتلّة، آلاف الضحايا يسقطون، الملايين مُهجرون ومفتقدون لحقوقهم الأساسية. أن تتحول تصريحات من هذا النوع إلى مادة للتفاخر أو لتمهيد اختراق سياسي، فهذا يعني أن مصالح استراتيجية واقتصادية تُقدم على حساب مبادئ إنسانية وأخلاقية هي من أسس الخطاب الإسلامي والقيادة الدينية التي تدّعي السعودية أنها تمثلها.

بالمقارنة بين الدور الذي تَفترضه السعودية في إدارة الشؤون الإقليمية وموقعها كحاضنة للحرمة الإسلامية ومركز روحاني لملايين المسلمين، تصبح أي خطوة نحو التطبيع المبكر مع قوة احتلال لاسمها إسرائيل خيانة لهذه المكانة إن لم تكن جريمة سياسية. القيادة التي تريد أن تكون «منصة للحكم الإسلامي والمصالحة الإقليمية» هي أولى من يُطلب منها أن تدافع عن أحكام الشريعة التي تؤكد الكرامة الإنسانية وحق المظلوم، وأول من يُفترض به أن يكون درعًا يحمي المقدسات وليس صالحَ سوقٍ لصفقات دبلوماسية تُغيب العدالة. التطبيع ليس فِعلًا محايدًا إنْ لم يكن مشروطًا بانتصار حقوق الشعب الفلسطيني كاملةً؛ أي تطبيع يسبق أو يتجاوز مطالب العدالة ليس إلا فعلاً تجاريًاّ وسياسيًاّ يُشرعن الاحتلال ويثبّت إجراءات التهجير والضم.

من زاوية حقوق الإنسان والقانون الدولي، لا تُقدَّم أي شرعية لمفاوضات علاقات عادية مع دولة لا تزال تمارس احتلالًا وتمارس جرائمٍ تنتهك القوانين الدولية: الاستيطان، هدم المنازل، الاعتقالات الإدارية، القتل خارج إطار القانون، وحرمان ملايين البشر من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. إن الحديث عن تطبيع بدونه استيفاء شروط العدالة — أولها: إنهاء الاحتلال، ضمان حق العودة للاجئين، وقبول حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره — يعني التحالف مع نظام يمارس مظالم منهجية. هذا لا يُقلل من الحاجة إلى حوار إقليمي، لكنه يضع قواعد لا يجوز اجتيازها: التعايش لا يُبنى على أرض مسروقة ولا على صمت العالم عن الانتهاكات.

سياسياً، هناك بعد أخلاقي وقيمي لا يمكن تجاوزه: أي دولة تحمل منزلة قيادية في العالم الإسلامي، وعلى رأسها السعودية التي تتحدث عن «الحرمة» و«الوصاية التاريخية» على المقدسات، مطالبة بإعادة اعتبارها كوسيط نزيه وصادق إن أرادت أن تلعب دورًا حقيقيًا في حل القضية الفلسطينية. هذا يتطلب مواقف علنية وواضحة: رفض التطبيع المشروط أو المسبق، الضغط السياسي والدبلوماسي على إسرائيل لوقف جرائمها، والمطالبة بآليات دولية لفك الحصار عن الشعب الفلسطيني، وفتح ملف حق العودة وفق قرارات الأمم المتحدة. موقف النفط والاستثمارات والصفقات لا يجوز أن يستبدل موقف الضمير والعدل، وإلا فقدت السعودية أي سلطة أخلاقية في العالمين العربي والإسلامي.

من منظور استراتيجي إقليمي، تحويل جهود السعودية لبيع صورة داخلية وخارجية عبر مهرجانات الترفيه وصفقات اقتصادية ينزع عنها الشرعية حين ترافقها سياسات قمعية داخلية وخارجية. تطبيع العلاقات قبل إنهاء الاحتلال سيُقرأ في الشارع العربي والإسلامي كخُذلان، وسيفتح أبواب انتهازية جديدة أمام القوى المتطرفة التي ستستغل هذا «الخلاف بين النخبة والشعب». السعودية إن اختارت طرقًا تقربها من إسرائيل على حساب حقوق الفلسطينيين ستخسر ما تبقى من رصيدٍ شعبيٍّ وشرعي. لا قيمة لأي دور إقليمي يبنى على صورة إن لم يُبنَ على أسس العدالة والضمير.

من هنا، نحمّس على نقطتين عمليتين يجب أن تتبنّاهما أي قيادة عربية جدّية قبل التفكير في أي «تطبيع» أو تسريع علاقات مع الاحتلال: أولًا، التزام واضح وملموس بإنهاء الاحتلال وإنفاذ قرارات الأمم المتحدة، بما في ذلك حق العودة والتعويضات وإقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية؛ ثانيًا، إنشاء آلية رصد دولية مستقلة تُشرف على وقف الاعتداءات وحماية المدنيين، وتقديم مرتكبي الجرائم إلى العدالة الدولية. قبول أي شكل من العلاقات الاستثنائية مع إسرائيل قبل هذه الشروط هو قبلة موت لشرعية أي دور عربي يدّعي الدفاع عن الأمة ومقدساتها.

في الختام، رسالتنا واضحة: التطبيع مرفوض حتى تجف دماء الفلسطينيين، ولن تجف دماء الفلسطينيين أبدًا. لا يمكن بناء علاقات مع هذا الكيان القاتل طالما استمر الاحتلال والقتل والتهجير. أي تسهيل أو تركيب علاقات جديدة بين الرياض وتل أبيب يجب أن يَأخذ في الحسبان أن الشعب الفلسطيني على خط المواجهة وحقوقه ليست بندًا تفاوضيًا تُخصَع له الموازين الاقتصادية. ندعو السعودية بصوتٍ عالٍ وواضح لأن تكون في الطليعة الداعمة لحقوق الفلسطينيين: الضغط على إسرائيل لوقف العنف، دعم المسار نحو دولة فلسطينية كاملة السيادة، حماية حق العودة، وضمان العدالة الانتقالية والمساءلة الدولية. هذا المسار لا يَطلب من المملكة أقلّ من التصدي لمصالحها قصيرة الأمد إن لزم، لكنه يضمن لها بقاء نفوذها الأخلاقي والقيادي الحقيقي في المنطقة التي تقول إنها تريد إدارتها. ومن دون ذلك، كل حديث عن دور سعودي إقليمي سيكون عنوانًا بوجهين: وجهٌ للاستغلال ووجهٌ للموت السياسي والداخلي.

Exit mobile version