محمد بن سلمان يهدر ثروات الشعب لشراء ولاء مسؤولين غربيين وتبييض جرائم النظام

كشفت وثائق مسرّبة اطّلعت عليها صحيفة الغارديان البريطانية عن تورط رئيس وزراء السابق بوريس جونسون في مساعٍ تجارية سرية مع مسؤولين سعوديين كبار، سعى من خلالها إلى تسويق خدمات شركة استشارات خاصة لصالح ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، مقابل مكاسب مالية ضخمة. وتُظهر الوثائق بوضوح أن جونسون استغل علاقاته السياسية التي كوّنها أثناء توليه رئاسة الحكومة للتقرب من النظام السعودي، مقدّمًا نفسه بوصفه “معجبًا متحمسًا” برؤية ولي العهد، في خطوة لا تنفصل عن مساعيه لتوفير حصانة سياسية للنظام والتغطية على جرائمه وانتهاكاته مقابل المال.
الوثائق المسربة، المعروفة باسم “ملفات بوريس”، حصلت عليها منظمة أمريكية غير ربحية متخصصة في أرشفة التسريبات تُدعى “ملفات بوريس”، وتكشف كيف حوّل جونسون مسيرته بعد خروجه من رئاسة الحكومة عام 2022 إلى تجارة مربحة تقوم على استغلال النفوذ والعلاقات التي راكمها خلال سنواته في “دواننغ ستريت”.
الشركة التي استخدمها جونسون كغطاء لأنشطته تُدعى “بيتر إيرث”، وهي شركة استشارات بريطانية حديثة النشأة أسسها الممول الكندي أمير عدناني، الذي يدير شركة تعدين لليورانيوم بمليارات الدولارات وشارك في برامج إعلامية إلى جانب مستشار الرئيس الأمريكي السابق ستيف بانون. جونسون تولى منصب الرئيس المشارك للشركة، بعقد يضمن له 120 ألف جنيه إسترليني سنويًا، إضافة إلى حصة أولية تبلغ 12.5% من الأسهم، وفقًا للوثائق.
في أوائل عام 2024، التقى جونسون وزير التجارة السعودي ماجد القصبي، وهو مسؤول كان قد تعامل معه مرارًا حين كان رئيسًا للوزراء، بما في ذلك استضافته في داونينغ ستريت عام 2022 ومرافقته له خلال زيارة رسمية إلى الرياض. اللقاء هذه المرة جرى في نادٍ خاص للأعضاء الأثرياء في حي مايفير اللندني، يُدعى “5 هيرتفورد ستريت”، حيث ناقش الطرفان مشروع بيتر إيرث وخططه للعمل مع الحكومة السعودية. كما أظهرت الملفات أن عدناني نفسه حضر الاجتماع إلى جانب وزراء بريطانيين محافظين سابقين مقربين من جونسون ويحملون أسهمًا في الشركة.
الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، إذ صاغ جونسون رسائل مباشرة إلى ولي العهد محمد بن سلمان، تضمنت عبارات إطراء غير مسبوقة مثل وصفه بأنه “معجب متحمس بالرؤية التي تحملها للمملكة”. وأوضح جونسون في رسالته أنه يترأس شركة تقدم “حلولًا عملية للطاقة الخضراء وخفض الانبعاثات الكربونية”، معربًا عن رغبته في “خدمة المملكة ومساعدتها في تحقيق أهدافها”، ومقترحًا إرسال فريق من خبراء الشركة إلى الرياض للعمل على مشاريع للطاقة الحرارية الأرضية والحياد الكربوني. وفي رسالة موازية للوزير القصبي، أكد جونسون أن الشركة “حريصة على تقديم الاستشارات والمساعدة” للمملكة استعدادًا لقمة المناخ المقبلة.
الوثائق تكشف أيضًا أن جونسون وقّع عقد عمله مع الشركة في يناير/كانون الثاني 2024، أي بعد يوم واحد فقط من زيارته إلى الرياض حيث ألقى خطابًا وحضر مأدبة عشاء استضافها السفير البريطاني، ما يعكس التزامًا مسبقًا بخدمة المصالح السعودية حتى قبل حصوله رسميًا على موافقة الهيئة الرقابية البريطانية. وبالفعل، أبلغ جونسون (أكوْبا) بأنه ينوي بدء العمل مع الشركة في مارس/آذار 2024، لكنه لم يذكر أنه كان قد اتفق بالفعل على دوره قبل هذا التاريخ. وعندما وافقت اللجنة على المنصب في أبريل/نيسان 2024، فرضت شرطًا واضحًا يمنع جونسون لمدة عامين من الضغط على أي مسؤولين حكوميين أجانب كان قد تعامل معهم خلال وجوده في المنصب، لكن اللقاء مع الوزير القصبي والاتصالات مع ولي العهد كانت قد وقعت بالفعل قبل تلك الموافقة.
تكشف هذه التفاصيل أن جونسون لم يتجاوز فقط الحدود الأخلاقية، بل تعمّد تحويل رصيده السياسي إلى أداة لخدمة نظام استبدادي متهم بارتكاب جرائم وانتهاكات جسيمة في الداخل والخارج. فقد ارتبط اسمه كمسؤول بريطاني بارز بعلاقات وثيقة مع السعودية، تبادل خلالها رسائل واتساب مع ولي العهد محمد بن سلمان، وزاره رسميًا في 2022، ثم أعاد استغلال هذه العلاقات بعد خروجه من الحكومة لتعزيز مصالحه الخاصة على حساب القيم والمبادئ، مقدّمًا دعمًا غربيًا غير مباشر للنظام السعودي.
الوثائق توضح كذلك أن حاملي الأسهم في شركة بيتر إيرث لم يكونوا سوى دائرة مقربة من جونسون، شملت سبعة من مساعديه ومستشاريه المقربين، بينهم وزيرين محافظين سابقين، بالإضافة إلى شارلوت أوين، المساعدة السابقة التي منحه جونسون لقب النبالة في سن الثانية والثلاثين. وهو ما يعكس أن المشروع بأكمله لم يكن سوى شبكة مصالح شخصية ضيقة تهدف إلى جمع المال مقابل تبييض صورة النظام السعودي على الساحة الدولية.
رغم فشل النظام السعودي في الرد رسميًا على هذه التسريبات، إلا أن جوهرها واضح: ولي العهد محمد بن سلمان حصل على عرض مباشر من رئيس وزراء بريطاني سابق يعرض خدماته وخدمات شركته الخاصة لمساعدته في “تحقيق رؤيته”، في وقت يواجه فيه النظام السعودي إدانات واسعة بسبب قمع المعارضين، وتنفيذ الإعدامات، والتورط في حروب دامية بالوكالة، أبرزها في اليمن. وفي المقابل، حصل بوريس جونسون على راتب ضخم وحصة في شركة استشارية وفتح الباب أمام شركائه ومساعديه لاستغلال المال السعودي.
بهذا، يظهر جونسون كحلقة جديدة في سلسلة طويلة من السياسيين الغربيين الذين استغلوا مناصبهم السابقة لخدمة أنظمة استبدادية غنية، مقدّمين لها الغطاء والشرعية الدولية مقابل المال. وما كشفته هذه الملفات عن صفقاته مع النظام السعودي يؤكد أن المسألة ليست مجرد تجاوزات شخصية، بل تواطؤ كامل هدفه منح الحصانة وتبييض الجرائم والانتهاكات التي ارتكبها النظام السعودي محليًا وإقليميًا.
ويكشف هذا السلوك في الوقت ذاته طبيعة النظام السعودي الذي يهدر أموال الشعب على شراء الولاءات السياسية في الغرب وتلميع صورته دوليًا، بدلًا من توجيه هذه الثروات الهائلة إلى تحسين حياة المواطنين وتطوير الاقتصاد الوطني وتحقيق تنمية حقيقية داخلية. فبينما يعاني السعوديون من أزمات معيشية وغياب العدالة الاجتماعية، يبدّد النظام المليارات على شبكات النفوذ والصفقات المشبوهة مع شخصيات غربية بارزة، في محاولة لإخفاء جرائمه وانتهاكاته وشراء الصمت الدولي إزاء سياساته القمعية وحروبه بالوكالة في المنطقة.