
تطور مفهوم “السعودة” من كونه سياسة داخلية سعودية تهدف لإحلال المواطنين محل العمالة الأجنبية، إلى توصيف سياسي عالمي يشير إلى اتساع نفوذ النظام السعودي وقدرته على التأثير في بلدان أكبر منه حجمًا ونفوذًا. واليوم، بات هذا المفهوم يكتسب بُعدًا جديدًا وخطيرًا داخل الولايات المتحدة نفسها، حيث تتحدث تحليلات وصحف أمريكية عن “سعودة أمريكا” أو The Saudification of America، في إشارة إلى توسّع تأثير المال السعودي داخل المؤسسات السياسية والإعلامية والثقافية الأمريكية، حتى بات هذا النفوذ قادرًا على إعادة تشكيل أولويات السياسة الداخلية والخارجية في واشنطن.
هذه التحولات لا يمكن فصلها عن اللحظة المفصلية التي مثّلها اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي. فقد كان مقتل جمال — الكاتب في واشنطن بوست والذي حذّر مبكرًا من صعود الاستبداد في كل من الرياض وواشنطن — بمثابة إنذار مبكر لأمريكا نفسها. إنذاره لم يكن فقط عن مستقبل السعودية، بل عن مستقبل الولايات المتحدة، التي بدت في السنوات اللاحقة أكثر استعدادًا للتسامح مع القمع، وتقبّل الرقابة، وتبرير العنف السياسي مقابل المال والنفوذ.
التقرير الأصلي يربط بين الحدثين: بين تحوّل أمريكا سياسيًا وأخلاقيًا، وبين الجريمة التي قُتل فيها جمال، والتي حاولت الإدارة الأمريكية السابقة احتواءها وتبريرها. فبعد أسابيع من إعلان الاستخبارات الأمريكية أن محمد بن سلمان متورّط في اغتيال خاشقجي، عاد ترامب ليحتضن ولي العهد، وليفتح أمامه أبواب واشنطن، وكأن شيئًا لم يحدث. تصريحات ترامب آنذاك كشفت الكثير عن المنطق الذي حرك علاقته بالرياض: “إنهم يشترون منا… يدفعون لنا الكثير… لماذا أكرههم؟”.
هذا المنطق التجاري الخالص هو الذي قاد محمد بن سلمان للعودة إلى واشنطن بدعوة رسمية جديدة، ليجد إدارة سياسية تفتح ذراعيها، وجمهورًا سياسيًا وإعلاميًا صامتًا، ومؤسسات إعلامية تخلّت تدريجيًا عن الأصوات التي كانت تنتقد الاستبداد أو تدافع عن حرية الصحافة.
وفي قلب هذا الصمت، ظهرت “سعودة الإعلام الأمريكي”. فقد جرى تفكيك القسم العالمي للرأي في صحيفة واشنطن بوست — وهو القسم الذي كان يكتب فيه جمال — كما تلاشى برنامج الزمالة الذي كان مخصصًا للصحفيين الذين يخاطرون بحياتهم للكتابة ضد الأنظمة القمعية. الأكثر خطورة هو وضع “الخطوط الحمراء” التحريرية داخل المؤسسة، خطوط لا تختلف كثيرًا عن تلك التي أخبر جمال عنها قبل سنوات عندما كان يعمل في الصحف السعودية، حيث كان يُملى على المحررين ما يجب نشره وما يجب منعه.
اليوم، وبحسب التقرير، فرض مالك الصحيفة جيف بيزوس قواعد تحريرية تقوم على “الأسواق الحرة” و“الحريات الفردية”، في محاولة لحصر الخط التحريري في إطار لا يزعج الحلفاء السياسيين ولا يقترب من خطوط الصراع مع الأنظمة القمعية أو من قضايا مثل القمع، والرقابة، والعنف السياسي. ومن المفارقات أن الصحيفة التي احتفت بمقالات جمال، أصبحت اليوم أقرب إلى المؤسسة التي كان جمال يحذّر منها داخل السعودية.
هذا الانزياح الإعلامي ترافق مع سعودة أوسع داخل المشهد الأمريكي:
- مؤسسات إعلامية تتراجع عن ذكر اسم خاشقجي قبل زيارة ابن سلمان.
- أصوات سياسية تتجنب انتقاد السعودية بسبب الأموال والاستثمارات الضخمة.
- إدارة أمريكية مستعدة لقبول “الابتزاز السياسي” مقابل التمويل.
- محاكمات واستهداف للصحافة المعارضة.
- ومشروع سياسي كامل يُعاد تشكيله ليصبح أقرب في منطقه إلى ما يحدث داخل الأنظمة السلطوية التي كان جمال يحذّر منها.
السعودية أيضًا دفعت باتجاه “سعودة الثقافات” عبر شراء فرق كرة القدم، رعاية بطولات رياضية، استضافة مؤتمرات فخمة، وتمويل سياحة مؤدلجة تعتمد على “سفراء محتوى” يقدّمون صورة مصقولة ومزوّرة للدولة. جمال كان يتحدث دائمًا عن هذا الوجه المزيّف، وعن الفجوة بين الصورة اللامعة والواقع المليء بالفقر والتضييق، وعن المدن المستقبلية التي تُبنى على أنقاض أصوات معارضة.
واليوم يبدو أن هذا النموذج لم يعد حكرًا على السعودية وحدها، بل بدأ يمتد عبر المال والنفوذ إلى الخارج، ليرسم علاقة جديدة بين واشنطن والرياض، علاقة مشبعة بكافة عناصر “السعودة”: المال، الاستثمارات، النفوذ السياسي، شراء الولاءات، وتطويع المؤسسات الإعلامية.
ترى منظمة معًا من أجل العدالة أن ما تكشفه هذه التقارير يمثّل تحولًا خطيرًا في العلاقة بين الولايات المتحدة والسعودية، ليس فقط من زاوية السياسة الخارجية، بل من زاوية حرية التعبير داخل أمريكا نفسها. المنظمة تؤكد أن التغاضي المستمر عن جريمة اغتيال جمال خاشقجي، ومحاولة محو اسمه من الخطاب الإعلامي، وتقييد الأصوات التي تسير على خطاه، كلها دلائل على أن واشنطن تقترب تدريجيًا من النموذج السلطوي الذي كان جمال يحذّر منه.
وتعتبر المنظمة أن “سعودة أمريكا” ليست مجرد توصيف رمزي، بل عملية حقيقية يجري فيها تطبيع القمع، وتبييض الأنظمة القاتلة، وتخفيض سقف الحرية لصالح المال السياسي والتحالفات المصلحية. وتشدد على أن هذه التحولات تهدد القيم التي لطالما ادّعت الولايات المتحدة الدفاع عنها، وأن الصمت على نفوذ محمد بن سلمان داخل المؤسسات الأمريكية هو تخلٍّ خطير عن مبادئ العدالة وحق الصحفيين في الحياة والكتابة الحرة.
وتذكّر “معًا من أجل العدالة” بأن جمال خاشقجي لم يكن ضحية نظام خليجي فحسب، بل ضحية تواطؤ دولي جعل جريمة قتله ممكنة ومحمية، وأن استمرار هذا النهج يشكل تهديدًا مباشرًا لحرية الصحافة عالميًا، وللمجتمعات التي تنظر إلى الصحافة بوصفها حصنًا أخيرًا أمام الاستبداد.



