تزداد أزمة سكان مدينة جدة تعقيداً مع مرور الوقت، إذ ترفض السلطات توفير بديل للسكان عن منازلهم وأحيائهم التي يتم هدمها وتدميرها بواسطة السلطات، أو حتى تقديم تعويضات مادية ملائمة للأضرار التي ستترتب على إجبار مئات الآلاف على ترك ماضيهم وزلزلة استقرارهم مقابل طموحات ولي العهد.
في ديسمبر/كانون الأول من العام الماضي، أطلق ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان المُخطط العام والملامح الرئيسة لمشروع “وسط جدة” (“نيو جدة داون تاون” سابقاً)، بإجمالي استثمارات تصل إلى 75 مليار ريال خصصت لتطوير 5.7 ملايين متر مربع، بتمويل من صندوق الاستثمارات العامة والمستثمرين من داخل المملكة العربية السعودية وخارجها، وسيشرف على المشروع شركة “تطوير وسط جدة”، التي أسست عام 2019 من قبل صندوق الاستثمارات العامة.
وبحسب المخطط، فإن المشروع يضم دار للأوبرا ومرسى لليخوت وأسواق ترفيهية ذات طراز عالمي. وبالرغم من عظمة المخطط، فإن الدولة أغفلت أمراً هاماً، وأن المكان المخصص للمشروع مأهول بالسكان، الذين وُلد بعضهم ولم يعرف لنفسه موطناً أو مصدر دخل سوى في جدة.
وفقاً لتحليلات خبراء ونشطاء، فإن المشروع السعودي الضخم لا يخدم سوى فئة معينة من المجتمع، وكأنه صمم خصيصاً لـ “يتناسب مع هوى البيروقراطية السعودية الجديدة المهووسة بمشاريع الاستثمار والترفيه والاستهلاك والرفاهية، والتي لا تصب فقط في خدمة مصالح أثرياء البلاد”، في استعراض لمثال آخر على هذا الهوس، وهو مشروع نيوم الضخم، الذي بسببه يتم تهجير الآلاف من أبناء قبيلة الحويطات، الذين يسكون وأجدادهم أرض المشروع منذ مئات السنين.
تقول مصادر حقوقية إن الدولة حتى الآن قامت بتشريد نحو 7196 نسمة من حي ذهبان، و10906 من حي ثول، و7973 من حي النزهة، و9388 من حي مشرفة، و121590 من حي الجامعة، و44385 من حي الهنداوية، وحي الثعالبة، وبحسب المخطط، فإن قرارات الهدم حتى الآن تشمل إزالة أكثر 13 حي سكني من أصل 34 حي ستتم إزالتها بالكامل ضمن المشروع.
تقع مدينة جدة على ساحل البحر الأحمر عند منتصف الشاطئ من الشرق وتعتبر العاصمة الاقتصادية والسياحية للمملكة، وتعتبر الأحياء المهددة بالهدم جزءاً من التاريخ الاجتماعي والعمراني لهذه المدينة الحجازية، التي كانت ولا زالت مركزاً للتجارة وبوابة مكة المكرمة.
تدعي الدولة أن عمليات الإزالة والهدم تقوم على أساس قانوني بمحاربة المخالفات السكنية والقضاء على العشوائيات، في حين أن المناطق والأحياء التي تدعي أنها عشوائية، هناك أحياء أخرى تشابهها تماماً لكن تقول السلطات إنها أحياء تاريخية.
وفقاً لقانونيين، فإن عمليات التهجير لم تكن قانونية من الأساس، إذ خالفت الدولة القانونين الدولي والمحلي في تنفيذ هذا المخطط، إذ يطالب القانون الدولي الحكومة السعودية باستنفاد البدائل المناسبة، واتباع الإجراءات القانونية، وتقديم تعويضات فورية وكافية وفعالة.
في حين ينص القانون المحلي الخاص بنزع ملكية الأراضي الذي تم سنه عام 2003، على أن تثبت الحكومة عدم وجود بديل لمصادرة هذه الأراضي، وأن الحكومة استنفدت أولاً إمكانية استخدام أراضي الدولة لإنجاز هذه المشاريع قبل التفكير في الأراضي ذات الملكية الخاصة.
كما يطلب القانون أيضاً من المسؤولين السعوديين إكمال تقييم محدد للممتلكات لمنح تعويض بعد 60 يومًا من موافقة الحكومة على المشروع، إذ يجب أن يتلقى المواطنون السعوديون إشعارًا لمدة 60 يومًا، وفي حالة حدوث مصادرة، يجب أن يكون التعويض الحكومي عادلاً، وهو ما فشلت الحكومة أيضاً في الالتزام به.
في جميع الحالات، لم تلتزم السلطات السعودية بأي من المعايير المحددة لإخلاء المواطنين من منازلهم ونزع ملكية أراضيهم وممتلكاتهم منهم، وبحسب عدد كبير من العائلات، فإن بعضهم تسلم إشعار بالإخلاء في غضون 24 ساعة فقط دون توفير بديل أو تعويض.
لقد أكد ولي العهد السعودي في أكثر مناسبة أنه لن يتراجع عن خططه للتطوير والتحديث، وتحدث ذات مرة أنه عازم على تشييد “أهراماته الخاصة” في شبه الجزيرة العربية، ليضاهي بها معجزة التاريخ الفرعوني، لكن يبدو أنه لن يتشابه مع الفراعنة إلا في الطغيان واستغلال طاقات ومقدرات الشعب من أجل خدمة طموحاته ومشاريعه.
إننا نطالب العالم أن يتضامن مع أبناء مدينة جدة التي تضم أكثر من مليون نسمة، والتدخل من أجل ضمان عدم تشريدهم أو توفير بدائل مناسبة ومتطابقة مع المعايير الإنسانية في حال تم إجبارهم على الإخلاء.