منتهى القهر: رسالة قاسية من السجون السعودية إلى العالم
على مدار الأسبوعين الماضيين، احتفت وسائل الإعلام السعودية -الرسمية والخاصة- بفعاليات ما يُعرف بـ مهرجان “أجنحة برامج إدارة الوقت” الخاص بنزلاء السجون، والتي يحاول النظام من خلاله تلميع سمعته، وتبييض صورة القاتمة التي يعرفها العالم عن أوضاع الاحتجاز في المملكة.
تم بث تقارير مصورة من داخل السجون، عبارة عن جولات للتعرف على أجنحة السجن والأنشطة التي تُقام بداخله، للرجال والنساء، كما اشتمل المهرجان على فعاليات مختلفة شارك فيها المعتقلين وذويهم، كما تم تنظيم عروض غنائية شارك فيها معتقلات “سياسات” تعرضن للاختفاء القسري لفترة.
المهرجان الذي أشرف على تنظيمه “جهاز أمن الدولة -سيء السمعة- ضمن أنشطة لنزلاء السجون التابعة لها مثل سجن الحائر في الرياض، سجن الطرفية في القصيم، لتكون نسخة جديدة من مهرجانات سابقة نُظمت في سجون أبها والدمام وذهبان بجدة.
المهرجان وبشكل واضح وصريح كان عبارة عن تبييض مباشر وعلني لفضائح النظام وجرائمه المرتكبة داخل تلك السجون ضد معتقلي الرأي والمعارضين من الرجال والنساء على حد سواء، وبدلاً من أن يصلح النظام صورته بإحداث إصلاحات حقيقية وتغيرات جذرية تبدأ بإطلاق سراح المعتقلين تعسفياً، قام النظام بإجبار المعتقلين السياسيين -تحت الضغط والتهديد- للمشاركة في تلك الفعاليات والإدلاء بتصريحات تؤكد تواجدهم في ظروف احتجاز مثالية، بل وأفضل مما هو عليه الواقع خارج السجون.
في أبريل/نيسان الماضي، استعان النظام بالمعتقلة السياسية ياسمين الغفيلي -المحتجزة في سجن الطرفية- لتلميع صورة سجونه، حيث تم بث لقاء مصور معها على القناة الإخبارية السعودية، وكانت تقوم بالترويج لبرامج إدارة الوقت، وتتحدث عن عن سرعة استجابة الجهات الأمنية لمطالب النزيلات لتحسين الأوضاع، وإطلاق أنشطة لاستغلال الوقت والترفيه.
الغفيلي ليست نزيلة عادية، إنها ناشطة اعتقلت في أيار/ مايو من العام الماضي على خلفية آرائها السياسية وتغريداتها الناقدة للنظام ودفاعها عن المعتقلين، وهي أنشطة كانت تقوم بها تحت اسم مستعار، قبل أن يتم كشف هويتها الحقيقية واعتقالها، أي أنها -وبغض النظر عن ظروف الاحتجاز- تدفع حريتها ثمناً لرأيها، ومحاولتها التعبير عما يجول في خاطرها.
وهذا الشهر، لجأ النظام لاستخدام ذات الأسلوب الرخيص، الذي لا يُفهم منه إلا أن المعتقلين السياسيين في المملكة يتعرضون لحملات إذلال ممنهجة، ويعيشون في قهر منقطع النظير، إذ يُجبرون على مديح معاناتهم، وتلميع أوضاع احتجازهم، والدعاء للجلادين.
بعد أكثر من عام من الاختفاء القسري والاعتقال في ظروف غامضة، ظهرت الناشطة أسماء السبيعي ضمن هذه الفعاليات، وهي تتغنى على المسرح بأوضاع الاحتجاز التي تعلم جميع المنظمات الحقوقية النزيهة أنها أوضاع مزرية لا تتناسب مع أدنى معايير السجون العالمية.
كما ظهر الناشط راكان العسيري، لأول مرة بعد سنتين من اعتقاله التعسفي على خلفية انتقاده التطبيع مع إسرائيل- وهو يقوم بالتعريف بأنشطة سجن الحائر التي توفرها المباحث العامة وأمن الدولة، كما تم البث من داخل قاعات يقول نشطاء عنها إنها تابعة لأحد الفنادق.
اللافت للنظر، أن سجن الحائر الذي تسعى السلطات لتلميع صورته ونشر دعاية إيجابية عنه -بالكذب والإجبار- هو ذاته السجن الذي قُتل فيه شيخ الحقوقيين السعوديين عبد الله الحامد نتيجة تعرضه للإهمال الطبي المتعمد، والتعنت في تقديم أي رعاية طبية له.
سجن الحائر أيضاً هو السجن الذي جُردت فيه لجين الهذلول -التي أفرج عنها في فبراير/شباط 2021- من كافة حقوقها الإنسانية، وتعرضت فيه لأبشع أنواع التعذيب النفسي والجسدي، بالإضافة إلى التحرش الجنسي والتهديد بالاغتصاب وقطع الرأس، بالإضافة إلى انتهاكات أخرى أشد فظاعة يتعرض إليها المعتقلون -رجالاً ونساء- بصورة شبه يومية حتى الآن.
تأتي هذه التقارير -الكاذبة- في وقت تصاعدت فيه الانتقادات الدولية للحكومة السعودية حول أوضاع الاحتجاز المزرية، تبعتها تقرير صادم نشرته صحيفة الاندبندت البريطانية بالتعاون مع منظمة جراند ليبرتي فضح تعرض المعارضين -رجالاً ونساء- لانتهاكات وحشية على يد أفراد الأمن داخل سجون المملكة، دون حسيب أو رقيب، أو رحمة لكبر سن.
الحكومة السعودية بالطبع تحاول الرد على تلك الانتقادات، لكنها دائماً تفشل بسبب لجوئها إلى تصدير صور أبعد ما تكون عن الواقع، الذي يحاول السجناء سرده أمام المحكمة لكن يتم تجاهل أقوالهم.
الجدير بالذكر أن الحكومة السعودية لجأت لهذه الحيلة “الهزيلة” قبل أعوام من أجل تلميع صورتها ودفع أي شبهات حول قيامها بتعذيب معتقلي الرأي، حيث تم استخدام الإعلامي عبد العزيز القاسم من أجل نشر سلسلة مقالات -مطلع 2018- حول لقاءه بعدد من معتقلي الرأي، مثل محمد السعيدي والشيخ سلمان العودة وعوض القرني، زعم خلالها أن الدعاة نفوا -في حديثهم له- بشكل قاطع تعرضهم لأي نوع من أنواع التعذيب، وأن عزل الشيخ العودة في زنزانة انفرادية سينتهي خلال أسابيع، وهو أمر لم يتم الآن، بعد قرابة خمس سنوات من اعتقاله.
يُذكر أن الصحفي الراحل جمال خاشقجي انتقد قام به النظام السعودي من ترويج للسجون عبر تلك المقالات، وغرد بأن “نشر حديث مع معتقل سياسي مخالف للأنظمة، ولو كانت الصحيفة مثلا تصدر من بريطانيا، لأجبرت على الاعتذار وسحب اللقاء”.
وتابع خاشقجي: “ستنتقد المملكة من قبل منظمات لفعل هي في غنى عنه، لو كان هناك مستشار قانوني حصيف ينصح القوم”.
إننا نؤكد أنه مهما بلغت ظروف وأوضاع الاحتجاز من رقي ورفاهية، لن يشفع ذلك لبطلان الاحتجاز من الأساس، عدد كبير من المعتقلات في سجن الطرفية لم يكن للسلطات أن تحتجزهن من البداية، فهن لم يرتكبن أي جرم، كل ذنبهن محاولتهن المطالبة بالحقوق والحريات الأساسية، وهو أمر مشروع في القوانين والمعاهدات الدولية.
ومع ذلك، نؤكد أن تلك التقارير التي بثتها قنوات تابعة للدولة لا يمكن الاعتماد عليها كدليل على أن أوضاع الاحتجاز مثالية، كما لا يمكن الوثوق في منبر إعلامي لطالما استغله النظام للتشهير بالمعارضين وتشويه صورتهم، فضلاً عن كونه منصة موجهة لا تحمل إلا وجهة نظر السلطات.
ونشدد على ضرورة تدخل جهات أممية للتحقيق في الأمر والوقوف على الأسباب الحقيقية التي دفعت ناشطة مثل الغفيلي على الظهور في مثل هذا الفيديو والترويج للنظام، الذي يحاول بشتى الطرق تلميع صورته ومحو سجله السيء في حقوق الإنسان بطرق غير واقعية، إن كان يريد النظام تحسين الأوضاع حقاً، فليفرج عن المعارضين ومعتقلي الرأي، ويوافق على مبادرات النشطاء السياسيين لترسيخ أسس الديموقراطية في الحكم، وقبل كل ذلك، فلتتم معاقبة كل من انتهك حقوق المواطنين والمعتقلين.
إن مثل هذه الفعاليات والتقارير هي رسالة قاسية من داخل السجون السعودية إلى العالم أجمع، رسالة قهر مُفادها أنه لا حرية في تلك البلاد حتى في اختيار الصمت، إن تحدثت يتم اعتقالك، وحين تعتقل ويمارس ضدك أشد أنواع العذاب، تُجبر على الخروج للجميع بثغر باسم تشكر الظروف التي جعلتك خلف القضبان، وتمدح أوضاع غير صالحة للعيش الآدمي بالمرة، وبالطبع لا يوجد تفسير للموافقة على الظهور إلا التعرض لتهديد ووعيد بمضاعفة صنوف العذاب التي لا تتوقف.