
تجدد منظمة “معًا من أجل العدالة” إدانتها الشديدة لاستمرار احتجاز الشيخ الدكتور عبد الله بصفر، الأكاديمي والداعية السعودي البارز، والذي ما يزال قابعًا في سجون النظام السعودي منذ ما يقرب من خمس سنوات، بعد الحكم الصادر ضده في أكتوبر/تشرين الأول 2022 بالسجن 12 عامًا، في قضية تعكس بوضوح الوجه الحقيقي لقضاء مسيّس يُستخدم كسلاح لتصفية أصحاب الرأي والدعوة والتأثير المجتمعي الإيجابي.
جاء اعتقال الشيخ عبد الله بصفر ضمن حملة أمنية واسعة شنّها النظام السعودي ضد الدعاة والأكاديميين الذين لا يخضعون بالكامل للخطاب الرسمي، حيث اقتحمت قوات أمنية منزله في مدينة جدة في أغسطس/آب 2020، دون مذكرة اعتقال، وتم اقتياده إلى جهة مجهولة وظل قيد الإخفاء القسري لعدة أشهر، قبل أن يُكشف لاحقًا عن مكان احتجازه دون أن يُعرض على جهة قضائية طوال تلك الفترة. لم يُسمح له خلالها بالتواصل مع محامٍ، كما لم يُكشف لعائلته عن طبيعة التهم الموجهة إليه، ليبقى في عزلة تامة عن العالم، كما هو حال كثير من معتقلي الرأي في السعودية.
الشيخ بصفر هو أستاذ مشارك في قسم الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة الملك عبد العزيز، وشغل منصب الأمين العام للهيئة العالمية للكتاب والسنة، كما يعد أحد أكثر قراء القرآن الكريم شهرة في العالم الإسلامي، وشارك في عشرات المحافل الدينية الدولية ممثلًا للمملكة، وكان لصوته وتفسيره وحضوره الروحي أثر بالغ في أوساط المجتمعات الإسلامية، إلى أن قرر النظام السعودي إسكات هذا الصوت وإخضاعه بالقوة، كما فعل مع عشرات العلماء والدعاة ممن رفضوا الصمت على الانحراف الديني والسياسي في البلاد.
وبحسب ما وثّقته مصادر حقوقية مطّلعة، فإن السبب الرئيسي وراء اعتقال الشيخ عبد الله بصفر هو زيارته قبل سنوات إلى مدينة إسطنبول، حيث أمّ المصلين في أحد مساجدها خلال رحلة دعوية علنية، وخصّ بالدعاء المسجد التاريخي آيا صوفيا، مبتهلًا إلى الله بأن يُعاد فتحه كمسجد جامع للمسلمين، وهو ما اعتبرته السلطات السعودية تجاوزًا للخطوط السياسية المرسومة، رغم أن الزيارة كانت سلمية، والفعالية دينية بالكامل، ولا تتضمن أي تحريض أو دعوة إلى العنف. وبمجرد أن أعادت الحكومة التركية فتح مسجد آيا صوفيا للصلاة، سعت السعودية إلى معاقبة كل من عبّر عن تأييده لهذا القرار، وفي مقدمتهم الشيخ بصفر.
هذه الدعوة الصريحة التي دعا بها الشيخ بصفر علنًا، خلال خطبة بُثّت في أحد المساجد التركية، والتي لا تحمل في مضمونها أي تهديد أو تجاوز، وُظّفت كدليل ضمن محضر الاتهام الذي صيغ تحت مظلة “قانون مكافحة الإرهاب”، ليُزج به في قفص المحاكمة السياسية، رغم مكانته العلمية ووضوح طابع الدعوة السلمي في نشاطه.
المحكمة الجزائية المتخصصة في قضايا الإرهاب، التي يُحاكم فيها مئات من معتقلي الرأي دون أدنى درجات العدالة، تجاهلت في جلساتها كل دفوع الشيخ، ولم تحقق في مزاعم تعرّضه لسوء المعاملة خلال فترات التحقيق، كما لم تأخذ باعتبارها غياب أي دليل قانوني أو واقعي يبرر هذا الحكم القاسي، ما يجعل الحكم الصادر في أكتوبر/تشرين الأول 2022 مثالًا واضحًا على طبيعة الأحكام السياسية الانتقامية التي تصدر باسم القانون.
إن منظمة “معًا من أجل العدالة”، وإذ تجدّد تسليط الضوء على مأساة الشيخ عبد الله بصفر، فإنها تؤكد أن استمرار احتجازه حتى هذه اللحظة يمثل انتهاكًا صارخًا لحرية الدين والتعبير والتنقل، ويعكس النهج القمعي الذي يتبعه النظام السعودي في إسكات الأصوات المستقلة، خاصة أولئك الذين يملكون قاعدة جماهيرية وتأثيرًا واسعًا. كما أن استهدافه بسبب دعاء صادق في مسجد، واستعمال ذلك كأداة لإدانته، لا يمكن تفسيره إلا في سياق الهوس السياسي الذي يجعل من المواقف الروحية تهديدًا للسلطة.
وتحذّر المنظمة من أن استمرار هذا الوضع في ظل غياب أي موقف دولي حازم، يمنح النظام السعودي غطاءً للاستمرار في سياساته القمعية، ويحوّل القضاء إلى أداة للانتقام لا للعدالة. إن حياة الشيخ بصفر اليوم تُهددها ظروف السجن والعزلة، كما تُهدد حياة مئات من العلماء والدعاة والأكاديميين الذين تم الزج بهم في الزنازين لأنهم لم ينخرطوا في مشروع السلطة، ورفضوا المساومة على الحق.
لقد آن الأوان أن يعلو صوت المجتمع الدولي، وأن تتحرك المنظمات الحقوقية وهيئات الأمم المتحدة ومقرريها الخاصين من أجل إنقاذ ما تبقى من كرامة قانونية وإنسانية في السعودية، عبر المطالبة العاجلة بالإفراج عن الشيخ عبد الله بصفر، وتعويضه عمّا لحق به من ظلم، ومحاسبة كل من تورّط في إصدار هذا الحكم الجائر، أو تواطأ على استمرار احتجازه. إن الشيخ عبد الله بصفر ليس مجرمًا ولا محرضًا، بل هو سجين دعاء، وسجين ضمير، وسجين كرامة عالم رفض أن يُكتم صوته.